وقفات مع حديث (دَاوُوا مَرضاكُمْ بِالصَّدقةِ)
الحمد لله النافع الضار الشافي المانع المعطي، والصلاة والسلام على نبينا وقدوتنا ومعلمنا الخير كله، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «دَاوُوا مَرضاكُمْ بِالصَّدقةِ» [1].
لأول وهلة قد يستغرب قارئ أو سامع هذا الحديث بلسان حاله أو مقاله ما علاقة الصدقات بعلاج الأمراض؟ لكن عندما نعلم أن نبينا عليه الصلاة والسلام طبيب القلوب التي إذا مرضت كان خطرها على الإنسان أشد بكثير من أمراض الجوارح، لأن القلب ملك والجوارح جنود، وقد علّمنا عليه الصلاة والسلام كيف نعالج قلوبنا من الأمراض المعنوية.
حقيقة اليقين والتسليم بما جاء به نبينا عليه الصلاة والسلام تقودنا للإيمان الصادق والعلم النافع والعمل الصالح، كيف لا وما من خير إلا دلنا عليه صلى الله عليه وسلم وما من شر إلا حذرنا منه.
علاج الأمراض له صلة وثيقة بالعقيدة وحسن التوكل على الله، يقول سبحانه عن إبراهيم عليه السلام: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [2]، أي: إذا وقعت في مرض فإنه لا يقدر على شفائي أحد غيره، بما يقدر من الأسباب الموصلة إليه[3].
والقرآن كما أخبر الرحمن علاج لأهل الإيمان إذا صدق القلب وانشرح الصدر بالقبول والإذعان قال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [4]، قال ابن القيم: "فالقرآنُ هو الشِّفاء التام مِن جميع الأدواء القلبية والبدنية، وأدواءِ الدنيا والآخرة، وما كُلُّ أحدٍ يُؤهَّل ولا يُوفَّق للاستشفاء به، وإذا أحسن العليل التداوي به، ووضعَه على دائه بصدقٍ وإيمان، وقبولٍ تام، واعتقادٍ جازم، واستيفاءِ شروطه، لم يُقاوِمْهُ الداءُ أبداً"[5].
ولما كان المرض قاهر الرجال وعدو الأجيال والابتلاء الذي لا تستقر معه حال؛ ناسب أن يكون العلاج في تنفيس الكربات وتفريج الهموم وإغاثة الملهوف، من خلال بذل المال والصدقات ونفقته على المحتاجين.
وقد لا تصل العقول لحقائق ونتائج عملية لتلك الطرق والوسائل العلاجية، إلا بعد التجارب لكن ما أخبرنا به عليه الصلاة والسلام صدق وحقيقة لا مرية ولا شك فيه، فهو القائل: «تداووا عباد الله فإن الله تعالى لم يضع داء إلا وضع له دواء غير داء واحد: الهرم» [6]، وهذا الإخبار الهام لا يصدر إلا بوحي رباني، فعلاج المرضى بالصدقة جزء من ذلك.
فإن الطب نوعان جسماني وروحاني فأرشد النبي صلى اللّه عليه وسلم إلى الأول آنفًا وأشار الآن إلى الثاني فأمر بمداواة المرضى بالصدقة ونبه بها على بقية أخواتها من القرب كإغاثة ملهوف وإغاثة مكروب وقد جرب ذلك الموفقون فوجدوا الأدوية الروحانية تفعل ما لا تفعله الأدوية الحسية[7].
الإسلام دين شمولي يحض على التكافل الاجتماعي والاقتصادي، وإخراج المال وبذله للآخرين مآله إسعاد فئات متنوعة من المجتمع وسد حاجاتهم، وبالتالي الجزاء من *** العمل، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان، فالله سبحانه تكفل لمن أنفق دون رياء وبذل بلا مَنّ وأذى، أن يداوي مرضاه ويعافي مبتلاه.
العلاج بالصدقة لدفع الأمراض والبلاء عام قد ينتفع منه غير المؤمن كالفاجر والظالم والكافر، يقول ابن القيم: "فإن للصدقة تأثيرًا عجيبًا في دفع أنواع البلاء ولو كانت من فاجر أو من ظالم بل من كافر فإن الله تعالى يدفع بها عنه أنواعا من البلاء وهذا أمر معلوم عند الناس خاصتهم وعامتهم وأهل الأرض كلهم مقرون به لأنهم جربوه"[8].
الزكاة والصدقة تُزكي النفوس وتطهرها من أدران الشح والبخل والطمع والانكباب على الماديات، فينعكس ذلك على راحة البال وطمأنينة النفس وانشراح الصدر، ولهذا علاقة قوية وثيقة بكثير من الأمراض التي معظمها ناتجة عن اضطرابات نفسية كالقرحة وعسر الهضم والتهاب القولون، بل كثير من الأمراض تتأثر بشكل كبير بالحالة النفسية كارتفاع ضغط الدم وتصلب الشرايين والتهاب المفاصل وغيرها.
ولا يعني التداوي بالصدقة إهمال بقية الوسائل من الاستشفاء بالقرآن والدعاء والرقية الشرعية، والأخذ بالأسباب المادية من الأدوية وغيرها، لكن المريض بحسبه فقد يشتد المرض ويحتاج الجمع بين أكثر من طريقة، قال ابن الحاج في المدخل: "والمقصود من الصدقة أن المريض يشتري نفسه من ربه عز وجل بقدر ما تساوي نفسه عنده والصدقة لا بد لها من تأثير على القطع لأن المخبر صلى الله عليه وسلم صادق والمخبر عنه كريم منان ثم إن الثواب حاصل بنفس الصدقة ثم بعد ذلك إن صح صاحبها من مرضه فبخٍ على بخٍ وهو الغالب في حق من امتثل السنة المطهرة".
وهنالك العديد من القصص والعجائب قديما وحديثا تؤكد هذه الحقيقة، نقتصر على ما يلي:
الأولى: سأل رجل عبد الله ابن المبارك قائلا: يا أبا عبد الرحمن قرحة خرجت في ركبتي منذ سبع سنين، وقد عالجت بأنواع العلاج و سألت الأطباء فلم أنتفع به، فقال: اذهب فانظر موضعًا يحتاج الناس إلى الماء، فاحفر هناك بئرًا فإني أرجو أن تنبع هناك عين ويمسك عنك الدم، ففعل الرجل فبرأ[9].
الثانية: أصيبت بفشل كُلوي -نسأل الله السلامة والعافية والشفاء لمرضى المسلمين- عانت منه كثيرًا بين مراجعات وعلاجات فطلبت مَنْ يتبرعُ لها بكُلْيَة (بمكافأة قدرها عشرون ألف ريال) وتناقل الناس الخبر ومن بينهن تلك المرأةُ التي حضرت للمستشفى، موافقًة على كافة الإجراءات وفي اليوم المحدد دخلت المريضةً على المتبرعة فإذا هي تبكي فتعجبت وسألتها ما إذا كانت مكرهةً فقالت: ما دفعني للتَّبرع بكليتي إلا فقري وحاجتي للمال ثم أجهشتْ بالبكاء فَهَدَّأتها المريضة وقالت: المال لك ولا أريد منك شيئًا, وبعد أيام جاءت المريضة للمستشفى وعند الكشف عليها رأى الأطباء العجب فلم يجدوا أثرًا للمرض فقد شفاها الله تعالى ولله الحمد[10].
في النهاية لا بد من التنبيه والتنويه لبعض المسائل السريعة في هذا المقام:
- الصدقة طاعة عظيمة وقربة جليلة، وحتى تؤتي ثمارها ينبغي أن يتحقق فيها الإخلاص والاتباع كشروط لقبول أي عمل.
- احرص على أن تتصدق من طيب مالك فإن «الله طيب لا يقبل إلا طيبا» [11].
- اجعل نيتك في هذه الصدقة العلاج والشفاء وتنفيس هموم الآخرين.
- ليكن لديك ثقة تامة ويقين صادق بأن الله سيشفي مريضك مع ضرورة عدم استعجال النتيجة.
- العلاج بالصدقة توجيه نبوي شبه مهجور حبذا الاهتمام بهذا الجانب.
- الصدقة من شكر نعمة المال، بأدائها ترفع نقمة وابتلاء المرض بإذن الله.
- كما يهتم الإنسان بالطبيب الحاذق، ينبغي للمتصدق أن يتحرى المحتاج فعلا والمستحق.
----------------------------------------
[1]حسنه الألباني في صحيح الجامع برقم: 3358.
[2] الشعراء:80.
[3] تفسير ابن كثير.
[4] الإسراء:82.
[5] زاد المعاد في هدي خير البعاد.
[6] صحيح الجامع برقم 2930.
[7] فيض القدير شرح الجامع الصغير.
[8] الوابل الصيب من الكلم الطيب.
[9] شعب الإيمان للبيهقي.
[10] من عجائب الصدقة.
[11] صحيح مسلم.